المجلس الثاني

وفي مجلس آخر افتتح رضي الله عنه  الجلسة بالترحيب بالضيوف والزائرين وقال : كل عام وأنتم بخير وأسأل الله تعالى أن يجعلنا وإياكم والمسلمين بخير وعافية وعلى رضا من الله تعالى ورسوله    .، وأن يعيد هذا العيد علينا وعليكم وعلى المسلمين بكل خير وعافية ، ثم رحب بالحاضرين وقال : مرحباً يا شباب وإن كان فيكم كبار السن إلا أنكم شباب في طاعة الله إن شاء الله تعالى .. لأن الشاب الحقيقي هو القوي في طاعة الله وإن علاه الشيب ..

ويدل على ذلك قوله تعالى في سيدنا إبراهيم عليه السلام :{ سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ } ..

مع أن إبراهيم عليه السلام كان متقدماً في السن آنذاك ، ووصف سبحانه أصحاب الكهف بأنهم فتية فقال تعالى : { إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى } 

قلت : وكانت هذه الجلسة بعد صلاة المغرب وتأخرت عن الوقت المعروف بسبب شدة الحر .. وكان أحد القائمين على خدمة الجلسة زاد في إنارة المصابيح فقال الشيخ الإمام رضي الله عنه :إن من شأن النور أن يظهر الأشياء الموجودة التي لم تكن ظاهرة للعيان .. وكل هذه الأنوار مخلوقة ، وإن كان الشيء الذي يظهر الموجودات للعيان يسمى نوراً بعدما كانت في ظلمة ولا تراها الأعين فإن الذي خلق الموجودات وأظهرها من العدم هو الله نور السماوات والأرض .

أي : مظهر السماوات والأرض بعد أن كانت في العدم الإمكاني فلم يظهر شيء في الوجود إلا بنور الله تعالى .. قال تعالى : { اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ } أي : به ظهورها .. فهي ثابتة الوجود في العلم الإلهي . وذلك لأن الأشياء العدمية على نوعين : الأول معدوم مستحيل الوجود لا يمكن وجوده إطلاقاً كالشريك والولد في حق الله تعالى .. فهذا المعدوم المستحيل هو في ظلمة عدمية لا تقبل الظهور وهناك المعدوم الممكن كالإنسان قبل وجوده مثلاً كان في ظلمة عدم تحتاج إلى نور حتى يظهرها فأفاض سبحانه عليها النور فظهرت الممكنات من العدم ، فما من ظاهر إلا وقد ظهر بنور الله تعالى .. وما من نور ظاهر ويظهر لك الأمور إلا والذي أظهره أشد ظهوراً منه .

والذي أظهر نور الشمس من ظلمة العدم أشد ظهوراً من نور الشمس ..

والذي أظهر الظاهرات أشد ظهوراً منها ولذلك فإن نور البصر يقع على نور الله تعالى قبل أن يقع على نور المخلوقات لكن نوره سبحانه لطيف لا تدركه الأبصار فيقتصر نور البصر على رؤية الموجودات ولا يرى نور الله تعالى الذي أظهر الموجودات ..

وفي هذه المعاني قال الإمام الغزالي رضي الله عنه :

الله أكبر ما في الدار ديار                           وإنما هي نيران وأنوار لقد أماطت سليمى عن براقعها               فوجهها مشرق والطرف سحار  

فسبحان من أظهر الأشياء من ظلمة العدم بنوره جل وعلا ..

وهذا قوله    :[ أعوذ بنور وجهك الذي أضاءت له السماوات والأرض وأشرقت له الظلمات ]   عزاه السيوطي في الجامع الصغير للطبراني عن عبد الله بن جعفر أي : ظلمات العدم التي أشرق عليها نور الله فظهرت .

ولقد ذكر سبحانه في هذه الآية نور الإيجاد ونور الإمداد فقال تعالى : {  اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ } .. الآية  أما نور الإيجاد فهو المراد من قوله تعالى : { اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ }  أي : أوجد وأظهر سبحانه السماوات والأرض بنوره ..

وكذلك سائر الموجودات كالعرش والكرسي وما هنالك إنما وجدت بنوره سبحانه ولكنه اقتصر على ذكر السماوات والأرض لأنها مرئية مشهودة للعيان لا ينكر وجودها عاقل .

وأما نور الإمداد فهو المراد من قوله تعالى :{ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ }  وهاء الضمير في قوله تعالى :{ نُورِهِ } لا يعود إلى النور الأول بل إلى معنى آخر وهو معروف في علم البلاغة بالاستخدام .

والمعنى : { مَثَلُ نُورِهِ } أي نور الإمداد الإيماني في قلب عبده المؤمن كمشكاة .. وهذا النور خاص بالمؤمنين فقط .. وجهه سبحانه على قلوب المؤمنين فآمنوا بالله تعالى ..

ومن فقد نور الإمداد ولم يفقد الاستعداد لتقبله فعليه أن يتوجه إلى النور فينال منه ويستمد .

وأما من فقد الاستعداد لتقبل النور فلا يفيده النور وإن توجه إليه لأنه لا استعداد عنده ولا قابلية لتلقي النور .. كالمرآة والخشبة والحجرة فترى أن المرآة لما يتوجه عليها النور تظهر فيها الأشياء لتقبلها للنور .. وأما الخشبة وغيرها فلا تعكس النور .. مع أن النور توجه إلى الكل على حد سواء ولم يظلم أحداً منها ..

ولذلك فإن القلوب المستعدة لتقبل النور الإلهي قبلته وعرفت ربها وآمنت بالله تعالى .. قال تعالى :{ أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ } وقال سبحانه :{ فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ }  وقوله تعالى :{ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ } أي : هو نور الإيمان فعرفوا الله تعالى بنوره ..

أما قلوب الكافرين فقد توجه إليها النور ولكنها لم تقبله لعدم استعدادها لتلقيه فلم يظهر فيها نور الله تعالى كما لم تظهر الأشياء في الخشبة لما توجه عليها النور .

قال تعالى :{ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ }  ونسأل الله تعالى أن يثبت علينا إيماننا وأن يحيينا مؤمنين ويميتنا مؤمنين ويحشرنا مؤمنين في زمرة سيدنا محمد سيد المرسلين    وأن يدخلنا في قوله تعالى :{ يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ } 

ونقرأ الفاتحة على هذه النية ، ثم استأنف رضي الله عنه  حديثه فقال : إن أول مرآة تقبلت النور عن الله تعالى هو سيدنا محمد    وذلك لأن نور الحق قوي قاهر باهر لا يثبت أمامه إلا من خصه الله تعالى بقوة قابلية عالية وأعده وأمده لذلك وهذا هو سيدنا محمد    وهذا ما يعرف عند أهل الله تعالى بـ [ الحقيقة المحمدية ] أو الحقيقة الكلية  أو الحقيقة الجامعة ، وتسمى أحياناً [ كل شيء ] ، والمجلى الأول الذي تجلت وظهرت فيه أنوار الله تعالى .

وعن قلب رسول الله    ومرآته استمدت قلوب المؤمنين واستفاضت النور . 

وأخذ كل مؤمن على قدره واستعداده ، والفضل الأول لسيدنا محمد    الذي قال : [ إنما أنا قاسم والله يعطي ]   صحيح البخاري كتاب العلم عن معاوية رضي الله عنه والقسمة تكون على حسب الرتبة ، ولا يمكن لأحد أن يستغني عن سيدنا محمد    لا من الأولين ولا من الآخرين . ولا يمكن لأحد أن يتلقى عن الله جل وعلا مباشرة إلا من واسطة سيدنا محمد    .

ولو أمكن ذلك لأحد لخرج عن الأمر باتباعه    في جميع ما جاء عنه ولا يستثنى من الأمر باتباعه    أحد . ولو أمكن ذلك لأحد لأمكنه دخول الجنة بمفرده دون أن يدخل وراء رسول الله    ولا يمكن ذلك لأحد ، فهو    أول شافع ومشفع وأول من يدخل الجنة والناس من ورائه على حسب مراتبهم .

ولقد لفت سبحانه قلوب عباده للسؤال عنه والفهم عنه لفتهم في ذلك وأحالهم إلى سيدنا محمد    فمن ذلك : قوله تعالى :{ وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ }  ولم يقل سبحانه : وإذا سأل عبادي عني ، وهم العباد أهل القرب والطاعة لله تعالى نسبهم إليه سبحانه تشريفاً وتكريماً لهم مع أن الخلق كلهم عباده سبحانه .

وأما قوله تعالى :{ وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ } فهو خطاب عام لجميع الناس بما فيهم الكافرين . ولو دعا الكافر ربه أجابه . وذلك في أمور نفسية أو دنيوية .

وأما قوله تعالى :{ وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ } فهو في أمور الآخرة وقد أثبت سبحانه للكافرين رجاء منه فقال تعالى :{ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لَا يَرْجُونَ } فلهم رجاء من الله تعالى ودعاء لله تعالى لكنهم يجابون في أمور الدنيا وأموالها فقط لا في مراتب الآخرة وأحوالها .

فقوله تعالى :{ وَقَالَ رَبُّكُمُ } وهو رب كل المخلوقات سبحانه .

{ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ } وإجابته للمؤمنين من باب أولى . وأما قوله تعالى :{ وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي } أضاف إليه سبحانه عباده المقربين إضافة تشريف وتكريم على غيرهم .

فقوله تعالى :{ وَإِذَا سَأَلَكَ } أي : أنت يا رسول الله أنت المسؤول عني والجواب سيأتيك مني لتبلغهم إياه .

أما أن أحداً يسأل الحق مباشرة فلا يمكن ذلك . فهو    الواسطة في سؤال الخلق لله تعالى وهو واسطتهم في جواب الحق تعالى لهم  وهكذا لا تنكر واسطته    في كل الأمور .

قوله تعالى :{ فَإِنِّي قَرِيبٌ } أي : بالقرب المنزه اللائق به جل وعلا فليس هو قرباً زمانياً كأن تقول : فلان قريب مني وبيني وبينه ساعتا زمن ، وليس هو قريباً مكانياً كأن تقول : فلان قريب مني وبيني وبينه كذا من المسافة مثلاً .

أما قرب العبد من الله تعالى فهو قرب قلبي بمعنى أن يشعر العبد أن قلبه قريب من الله تعالى . 

أما قربه سبحانه من العبد فلا مثيل له . بل هو قرب من ليس كمثله شيء فقربه ليس كمثله قرب ، وهكذا سبحانه في سائر صفاته وشؤوناته .

وفي الآية الكريمة يقول سبحانه :{ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ }  فهو سبحانه أقرب إليك منك ، ومن هنا تفهم أن قربه سبحانه قرب مطلق ،  ولو كان قرباً حسياً مادياً فإن أقرب شيء من الإنسان هو حبل الوريد .

قوله تعالى :{ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي } أي : عليهم أن يستجيبوا لدعائي لهم بالطاعة فأجيب دعائهم ،  فهم يدعونني وأنا أدعوهم . 

فإن أجابوني لما دعوتهم أجبتهم فيما دعوا ، وأما دعوة الله لعباده فهي بقوله سبحانه :{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ }  ومن استجاب دعوة الله ورسوله    كانت إجابة الله لدعائه مضمونة ، وأما من قصر في ذلك فقد يستجيب سبحانه دعاءه وقد لا يستجيب .

ومما تقدم يتبين للإنسان أن سيدنا محمداً    هو الواسطة الكبرى بين الحق والخلق وهو المقصود بقولهم [ الحجاب الأعظم ] إذ ليس كل حجاب حاجباً فقد يكون الحجاب نوراً كما في الحديث :[ حجابه النور  ] طرف حديث في صحيح مسلم كتاب الإيمان . والنور لا يحجب .

أما سيدنا محمد    فهو الحجاب الأعظم بمعنى أنه    الواسطة بين الحق والخلق الذي يتلقى عن الله ويفيض على خلق الله وهو الناطق عن الله تعالى والمبلغ عن الله تعالى وهكذا لأن الخلق لا يمكنهم الأخذ من الله تعالى مباشرة لعدم الاستعداد والقابلية فيهم كما تقدم  وليعلم كل واحد فينا أن كلام العارفين رضي الله عنهم كلام ذو معان شرعية ولا نقص ولا خلل فيه على من تفهمه بموجب المعاني الشرعية .

ومما يحكى في هذا الباب أن رجلاً مسرفاً على نفسه بتضييع عمره في القيل والقال ، وكان له قصر مشرف على الطريق ، وهذا في عهد الخلافة العباسية ، فقال في نفسه : سأجلس على الشرفة وأكتب كلام كل من يمر بهذا الطريق ثم أنظر في منظومة ما كتبت  ففعل ذلك ، فمر رجل يبيع خلاً وينادي : خل خل فكتب : خل ومر آخر يقول لصاحبه : درج أمير المؤمنين له شأنه وجماله فكتب : درج أمير المؤمنين ، ثم نظر الرجل فيما كتب [ خل درج أمير المؤمنين ]  فلم يجد لما كتب معنى ولا مناسبة ولا فائدة بل كان خلطاً .

فمن الناس من يقرأ كتب العارفين رضي الله عنهم ويظن أن كلامهم  [ خل درج أمير المؤمنين ] لأنه لا يفهم من كلامهم شيئاً وربما فهم غير المراد فتكون المصيبة أعظم . 

وما درى هذا الأحمق أنه هو الذي يخلط في فهمه وأنه ليس في كلامهم رضي الله عنهم خلط ، ونقص كبير في حق العالم أن يقول : أنا أعلم كل شيء ، فقد يعلم أموراً في علوم معينة وتغيب عنه علوم أخرى .

فما بال من يدعي العلم في زمننا يتناول أحدهم كتب القوم العارفين رضي الله عنهم ويفهم منها ما لا يتفق فهمه مع نصوص الكتاب والسنة .

وقد يتهم العارفين بكلام هم منه براء . كل ذلك لعدم أهلية من قرأ كتبهم وقلة علمه وعدم اطلاعه الواسع على أحاديث رسول الله    وعدم اطلاعه على مصطلحات الصحابة ، لأن علومهم كلها مقيدة بالكتاب والسنة كما جاء ذلك عن الإمام الجنيد رضي الله عنه .

وليعلم كل مؤمن أن الذي أعطاه الله العلوم كلها هو سيدنا محمد    الذي قال : [ فتجلى لي كل شيء وعرفت ]  طرف حديث في  سنن الترمذي كتاب تفسير القرآن عن معاذ بن جبل رضي الله عنهما . أي : من علوم تتعلق بهذا الكون من عالم العرش إلى الفرش .

ولما تولى سيدنا علي رضي الله عنه  الخلافة سأله رجل عن مسألة فقال له سيدنا علي رضي الله عنه  : لا علم لي بها ، فقال له الرجل : هذا مكان من يعلم ، وكان رضي الله عنه قد وقف على المنبر يخطب في الناس ، فقال سيدنا علي رضي الله عنه  : هذا مكان من يعلم شيئاً ولا يعلم أشياء . أما من يعلم كل شيء فلا مكان له . أي : وهو الله جل وعلا ، فسكت الرجل وكان في قلبه مرض وانصرف .

وقد قال العلماء رضي الله عنهم : يتحتم على العالم مهما عظم علمه أن يعلم تلامذته قوله [ لا أدري ] حتى قال بعضهم : [ نصف العلم لا أدري ] ثم إن رجلاً سأل الشيخ الإمام رضي الله عنه  : هل تعتبر نفس ابن آدم شيئاً ؟ فقال الشيخ الإمام رضي الله عنه  : إن كلمة النفس تطلق على معان ويعرف كل معنى من سياق البحث ، فقد تطلق كلمة النفس على ذات الشيء كما تقول : رأيت فلاناً بنفسه ، أي : بذاته.

وقد تطلق على الروح الإنساني كما في قوله تعالى :{ اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا } أي : يقبض الأرواح .

وقد تطلق النفس في علم التصوف الأخلاقي العملي على مرتبة من المراتب التي وصل إليها الإنسان في سيره وسلوكه إلى الله تعالى ، ومنها النفس الأمارة والنفس اللوامة والنفس المطمئنة .. الخ ..

ومن هذا تفهم قوله    في الجهاد الأكبر أنه جهاد نفس [عن جابر قال : قدم على النبي    قوم غزاة فقال : قدمتم خير مقدم ، قدمتم من الجهاد الاصغر إلى الجهاد الاكبر مجاهدة العبد هواه ، عزاه في كنز العمال للديلمي والخطيب  ]   أي تهذيبها وتطهيرها من النقائص والرذائل ، وتحليتها بالفضائل والمكارم التي جاء بها رسول الله    . والنفس المطمئنة هي التي اطمأنت على شرع الله تعالى وأقامت عليه وسكنت ولم تضطرب .

روى الحاكم وغيره عن سعيد بن جبير قال : « مات ابن عباس بالطائف ، فشهدت جنازته ، فجاء طير لم ير على خلقته ودخل في نعشه فنظرنا وتأملنا هل يخرج فلم ير أنه خرج من نعشه ، فلما دفن تليت هذه الآية على شفير  القبر ، ولا يدرى من تلاها : يا أيتها النفس المطمئنة ارجعي إلى ربك راضية مرضية فادخلي في عبادي وادخلي جنتي   المستدرك كتاب معرفة الصحابة والمعجم الكبير للطبراني وهذه النفس التي أمر الله تعالى بتزكيتها هي التي ذكرها سبحانه بقوله :  { وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا  قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا } أي : سعى في تطهيرها .

وكان    يدعو بقوله :[ اللهم آت نفسي تقواها وزكها أنت خير من زكاها أنت وليها ومولاها ]  صحيح مسلم كتاب الذكر والدعاء والتوبة عن زيد بن أرقم رضي الله عنه .

ولا يدخل الجنة إلا من زكى نفسه كما قال تعالى : { جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ مَنْ تَزَكَّى }  أي : من تطهر من الرعونات النفسية ودعاوى الأنانية وروائح الربوبية من التكبر والتجبر .

روى أبو داود وغيره عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله    : قال الله عز وجل : " الكبرياء ردائي ، والعظمة إزاري – وفي رواية : العز إزاري -  ، فمن نازعني واحدا منهما ، قذفته في النار   الأدب المفرد للبخاري وشعب الإيمان للبيهقي - سنن أبي داود كتاب الباس وسنن ابن ماجه كتاب الزهد ولذلك نجد أن منهاج الصوفية أهل السير والسلوك إلى الله تعالى يقوم على تهذيب النفس ، فبحثوا في رعونات النفس وأمراضها وبينوا طرق تهذيبها ورياضتها وتزكيتها ، وصنفوا في ذلك كتباً كثيرة ، كل ذلك حتى تطهر نفس المؤمن وتطيب فلا يصدر منها إلا الخير وتصير أهلاً لأن تحل في مقعد صدق عند مليك مقتدر .

ومتى تحقق الإنسان بحقيقته التي هي صفة العبودية لله تعالى والذل والانكسار له سبحانه فقد سلك طريقاً سريعاً في التقرب إلى الله تعالى وإن قصر في فعل النوافل ، لأن من أكثر من النوافل والطاعات وهو يرى في نفسه أنه على شيء ، وأنه ذلك الرجل صاحب الأذكار والأوراد وأعجب من نفسه فهيهات له أن يصل إلى ربه جل وعلا .

ومن ذلك يفهم الإنسان ما قيل لأبي يزيد البسطامي رضي الله عنه  لما سأل الله تعالى : بم يتقرب إليه ؟  قيل له : [ تقرب إلي بما ليس في ]. 

أي : بصفة ليست لله تعالى وهي صفة الذل والانكسار لله تعالى لا بالعزة والاستكبار التي هي من صفات الرب جل وعلا . فالتقرب إلى الله تعالى لا يكون إلا بصفة العبد التي لا تفارقه وهي حقيقته في العبودية والذل والافتقار والانكسار لله رب العالمين لا بصفة الرب التي ليس للعبد حق فيها .

ومن هنا يفهم الإنسان قول رسول الله    : [ لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر ]  صحيح مسلم كتاب الإيمان عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنهما .  أي : حتى يطهر منه وتلين نفسه ولو بغمسة في جهنم عافانا الله من ذلك كله ، وإن فيما جرى لإبليس لعنه الله تعالى عبرة لكل إنسان ، فلقد بين سبحانه سبب شقاوة إبليس وطرده له من رحمته سبحانه وذلك هو إعجابه بنفسه وتكبره .

فلقد كان إبليس من عباد الجن ولم يترك مكاناً في الأرض إلا وسجد فيه لله تعالى ، حتى استأذن الله تعالى أن يسجد له في السماء بين صفوف الملائكة فأذن له سبحانه ، فلما جاء أمر الله تعالى للملائكة بالسجود لآدم عليه السلام ، وجاء الأمر الإلهي لإبليس خاصة بالسجود كما في قوله تعالى :{ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ }  امتنع إبليس عن السجود بسبب كبره ، وأظهر ما أضمره في نفسه من الأنانية وأنه خير من آدم واعترض على حكمة الله تعالى في ذلك وكان ذلك سبب طرده وشقائه الأبدي . نسأل الله العافية .

ولقد ذكر سبحانه هذه القصة لخلقه مع أنها جرت قبل أن يخلقهم وذلك لتكون لهم عبرة ، وليعلموا ويوقنوا أن التكبر والتعالي ليس من صفات العبد وأن مصيره إلى الهلاك إن هو ادعى ما ليس له .

ثم استأذن أحد القائمين على الجلسة بتقديم الحلوى للزائرين فأذن له الشيخ الإمام رضي الله عنه  وجعل الشيخ الإمام يرحب بالحاضرين ويبارك لهم في العيد .

ثم سأله بعض أهل العلم المتقدمين في السن : هل يجوز التكبر على المتكبر؟ فقال الشيخ الإمام رضي الله عنه  : نعم يجوز فقط في سياق الإغلاظ عليهم بعد دعوتهم وإقامة الحجة عليهم وإفحامهم بالحجة والبرهان .

أما في مجال الدعوة فتكون بلين الكلام واللطف والموعظة الحسنة ، كما قال تعالى لسيدنا موسى عليه السلام لما أرسله إلى فرعون وأرسل معه هارون : { فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى } ، وكان هذا الأسلوب اللين بأسلوب العرض وعدم التعنيف فقال كما بين تعالى :{ هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى } ، ولم يقل له : زك نفسك ، أو غير ذلك مما فيه صيغة الأمر والشدة ثم جرت عدة مناظرات بين موسى عليه السلام وفرعون وملئه ، وظهر صدق موسى عليه السلام وأقام عليه الحجة بدعوته إلى الله تعالى لكن فرعون أبى واستكبر فلجأ موسى عليه السلام إلى أسلوب التهديد والقوة وألقى عصاه وكان ما كان  وقد قال تعالى في بيان الإغلاظ على الكافرين المعاندين بعد أن أعرضوا عن دعوة رسول الله    :{ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ } الآية.

وقال تعالى :{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً } ، ومجمل القول أنك إذا دعوت فلاناً وأحسنت إليه وألنت له الكلام لكنه قابلك بالغلظة والتكبر وفحش الكلام ، فلا حرج عليك بعد ذلك أن تغلظ عليه في الكلام من باب المقابلة ، ومن المؤسف في زمننا أنك ترى بعض أدعياء العلم أو أدعياء التصوف يتكبرون على غيرهم من المؤمنين بدعوى أنهم ليسوا من طريقتهم أو غير ذلك ويترفعون عليهم ، وقد يمر أحدهم ولا يسلم على فلان ترفعاً وتكبراً عليه ، وإذا سألته عن سبب ذلك يزعم أن عزة العلم تحتم عليه ذلك !! ، وما درى هذا الأحمق أن التواضع للمؤمنين هو تواضع لله تعالى لأنك إذا تواضعت للمؤمن إنما تواضعت له بسبب إيمانه بالله تعالى لا لماله أو جاهه وقد وصف سبحانه أصحاب رسول الله    الذين هم صدر هذه الأمة وقد تحققوا بأوامر الله تعالى على مشهد ومسمع من سيدنا رسول الله    ، قال تعالى : { مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ } ، وقال تعالى :{ وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ } .

وليعلم كل مؤمن أن في نفسه استعداداً لدعوى فرعون إن هو لم يوقف نفسه عند حدود الشريعة ، فلابد لفرعون النفس من موسى الشريعة ، أي : لابد لمعالجة دعاوى النفس بالأنانية والكبر والتعالي من إيقافها عند أوامر الشريعة حينئذ تطهر وتطيب ، والموسى في اللغة : القاطع ، وقد قال العارفون رضي الله عنهم : النفس حية تسعى ما دامت حية تسعى ولذلك جاءت العبادات الشرعية تعبد النفس أي تذللها لربها جل وعلا ، كي تتواضع للمؤمنين من خلق الله تعالى كما قال تعالى :{ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ } ، أما كلمة [ الصوفية ] فقيل : إنها مأخوذة من الصوف وذلك لأن جل لباس الصحابة رضي الله عنهم كان من الصوف مع أنهم قد فتحوا البلاد وغنموا الغنائم الكبيرة بما فيها من الحرير والخز والذهب والفضة ، وأما لباس الصوف فيكسب النفس خشوعاً وتعوداً على الخشونة ويحمل النفس على الزهد في زخارف الدنيا .

ولقد كان الحسن البصري رضي الله عنه  ، وهو من كبار التابعين وعلمائهم وزهادهم وقد اجتمع بعدد كبير من أصحاب رسول الله    ، قال للتابعين : والله لقد أدركت سبعين بدريا – أي : من أصحاب رسول الله    الذين حضروا غزوة بدر-  أكثر لباسهم الصوف ولو رأيتموهم قلتم : مجانين - أي : لشدة زهدهم وكثرة عباداتهم وذكرهم لله تعالى  - ، ولو رأوا خياركم لقالوا : ما لهؤلاء من خلاق ، ولو رأوا شراركم لقالوا : ما يؤمن هؤلاء بيوم الحساب   انظر حلية الاولياء لأبي نعيم ولقد نال الإمام الحسن البصري رضي الله عنه  ذلك المبلغ العظيم في العلم والمعرفة والتقى والورع بسبب نفحة من بيت النبوة المحمدية بواسطة أم المؤمنين زوج النبي    السيدة أم سلمة رضي الله عنها ، فلقد كانت أم الحسن مملوكة للسيدة أم سلمة رضي الله عنها فأعتقتها وزوجتها وأنجبت الحسن ، فكانت تتردد على بيت السيدة أم سلمة رضي الله عنها ، وربما أرسلتها السيدة أم سلمة في بعض حاجاتها وتركت ولدها الحسن عند السيدة أم سلمة فإذا بكى أخذته السيدة أم سلمة إلى صدرها وربما أرضعته فنهل رشحات أمدته بالأسرار والأنوار حتى بلغ ذلك المقام ، ولقد جاء عن عدة من الصحابة قولهم للتابعين ، ومنهم أنس وأبو سعيد الخدري  رضي الله عنهما : إنكم لتعملون أعمالاً ، هي أدق في أعينكم من الشعر ، إن كنا لنعدها على عهد النبي    من الموبقات  ! صحيح البخاري كتاب الرقاق فانظر أيها المؤمن في الفرق الكبير بين ما كان عليه الصحابة رضي الله عنهم وبين التابعين الذين هم بعدهم في القرون مباشرة !! فما بال بعض العابدين في زمننا يظنون في أنفسهم أن ما بينهم وبين مقام الصحابة إلا الشيء اليسير ، وربما ظن أحدهم في نفسه أنه كالصحابة في الفضل ، وما هذا إلا جهل في مقام الصحابة رضي الله عنهم الذين هم تعلموا وتربوا وزكت نفوسهم بتعليم سيدنا رسول الله    وتربيته لهم ، وشهد لهم سبحانه بالصدق والإخلاص فقال تعالى : { يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا }فعلى كل مؤمن أن يعرف حده ، ولا يدعي ما ليس عنده ، ونسأل الله تعالى أن يستر أصلح صالح فينا ولا يؤاخذنا على ما صدر منا .

ولقد سأل بعض الصالحين ربه أن يلحقه بغبار الصالحين ، أي : فلا يفارقهم أبداً لأن الركب حين يمشي يتطاير الغبار من حوله .

وليعلم كل مؤمن أن الموازين في الآخرة على ثلاث مراتب : منها موازين الأعمال ومنها موازين لكتب الأعمال ومنها موازين لذوات الأشخاص وهو ميزان اعتبار الرجال في الكمال ، ومن ذلك قوله تعالى في الكافرين : { فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا } ، وفي الحديث الذي رواه الشيخان عن أبي هريرة رضي الله عنه ، عن رسول الله    قال : " إنه ليأتي الرجل العظيم السمين يوم القيامة ، لا يزن عند الله جناح بعوضة ، وقال : اقرءوا ، فلا نقيم لهم يوم القيامة وزنا "]   صحيح البخاري كتاب تفسير القرآن وصحيح مسلم كتاب صفة القيامة والجنة والنار  ونسأل الله تعالى أن يجعل موازيننا ثقيلة كما علمنا رسول الله    في دعائه :[ وثقل موازيني ]   طرف حديث في مستدرك الحاكم عن أم سلمة رضي الله عنها .  اللهم آمين ، وخلاصة القول أن الإنسان عبد لله في حقيقته وصفاته فعليه أن يعترف مع نفسه بذلك ، وأن لا يجاوز حد العبودية فيستريح ويسعد ، وأما من جاوز حده وادعى ما ليس عنده فقد عرض نفسه للشقاء والعناء ومثال ذلك أن الله تعالى خلق للإنسان أعضاء ومدارك وجعل لكل منها وظيفة فمن صرف كل عضو في وظيفته التي خلقه الله تعالى لها فقد استراح ، ومن تصرف في عضو خلاف وظيفته أتعب نفسه وأتعب أعضاءه أيضاً . 

قلت : ثم انقطع التسجيل ولم نتمكن من إتمام بقية كلام الشيخ الإمام رضي الله عنه .

 2009-12-22
 19504
 
 
 

مواضيع اخرى ضمن  في مجالس العيد

22-12-2009 7425 مشاهدة
المجلس الأول

وكان من عادته رضي الله عنه  أن يستقبل الناس في عيدي الفطر والأضحى ، وذلك في اليوم الأول والثاني من كل عيد بعد صلاة العصر . فيبقى باب الدار مفتوحاً ويتوافد الناس على مختلف طبقاتهم جماعة بعد جماعة حتى إذا لم يتسع المكان لأهله ... المزيد

 22-12-2009
 
 7425
المرئيات 8
المقالات 36
الصوتيات 129
الكتب والمؤلفات 258
الزوار 1831178
جميع الحقوق محفوظة لحفيد الشيخ الإمام: الشيخ عبد الله محمد محيي الدين سراج الدين © 2024 
برمجة وتطوير :