اشتغاله بالعلوم الشرعية

كان من جملة أنظمة المدرسة الخسروية التي تعنى بتدريس العلوم الشرعية : أن لا يقبل إلا من تجاوز الخامسة عشرة من عمره ويخضع فيها الطالب لامتحان قبول يعرض فيه على لجنة من العلماء والمدرسين  بحيث يمتحن الطالب في القراءة والكتابة ومبادئ اللغة العربية وتجويد القرآن الكريم .

وقد قبلت إدارة المدرسة شيخنا الإمام ولم يبلغ الثالثة عشرة من عمره بعد وذلك لما وجدوا فيه من الاستعداد الكامل والأهلية التامة لمتابعة العلوم الشرعية وكان من المتفوقين في فحص القبول .

أمضى ما يقرب من ست سنين في المدرسة الخسروية استمع فيها إلى دروس كبار العلماء والمشايخ منهم : الشيخ محمد سعيد الإدلبي / ولد سنة /1292/ هـ وتوفي سنة /1370/ هـ / والشيخ إبراهيم السلقيني الكبير ، والشيخ أحمد الحجي الكردي أمين الفتوى وقتئذ ، والشيخ عيسى البيانوني ، والشيخ فيض الله الكردي ، والشيخ عمر مارتيني ، والشيخ راغب الطباخ / ولد سنة 1293 هـ وتوفي سنة 1370هـ /  ، مدير المدرسة الخسروية وقتها ، وغيرهم من المدرسين أهل الفضل والعلم رحمهم الله تعالى ونفعنا بهم .

وكان في تحصيل العلم من المتفوقين ، حاز الدرجة الأولى في جميع سني دراسته ، والتفت إلى حفظ  متون أمهات العلوم ، وإن لم تكن كلها من مقررات المدرسة وقتها ، إلا أن رغبته الصادقة في تعلم العلوم الشرعية حملته على ذلك ، فحفظ متن الجزرية في علم التجويد ، ومتن الجوهرة ومتن السنوسية في علم التوحيد ، ومتن السلم في علم المنطق ، ومتن البيقونية في علم مصطلح الحديث وألفية ابن مالك في علم النحو والصرف وعقود الجمان في علم البلاغة ثم حفظ ألفية الحافظ العراقي في السيرة والرحبية في علم الفرائض وغيرها .

اشتغاله بعلم التفسير والحديث

قال شيخنا الإمام رضي الله عنه  :

[ لقد حبب الله تعالى إلي حفظ أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم  منذ صغري ، ولما كنت في الصف الثاني الإعدادي في المدرسة الخسروية رأيت في مكتبة والدي رضي الله عنه  كتاب [ تيسير الوصول ] /  إلى جامع الأصول وهو مختصر [ جامع الأصول لأحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم  ] للإمام عبد الرحمن بن علي المعروف بابن الديبع الشيباني ، ولد سنة /866/ هـ وتوفي سنة / 944/ هـ رحمه الله تعالى /.
  ويقع في أربع مجلدات تناولت المجلد الأول منها في العطلة الصيفية وشرعت في الحفظ حتى حفظت في كل عطلة مجلداً وأنهيت الحفظ في آخر عطلة من دراستي في المدرسة الخسروية وكنت لا أشرع في حفظ شيء جديد حتى أتمكن وأتقن محفوظاتي السابقة .

وكنت أتناول كتب تفسير القرآن الكريم وأحاول فهم آيات الله تعالى من خلال أحاديث سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم  وهي في الحقيقة بيانات لمعاني القرآن الكريم لأن الله تعالى يقول:{ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ  } ولم يكن يخطر في بالي مرة أني سأتصدر مجلساً للتدريس أو أصعد منبراً للخطبة بل إن الباعث لي على ذلك كله هو حبي لله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم  ورغبتي الشديدة في تعلم آيات الله تعالى وأحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم  إلا أنني بعد ذلك وجدت قيمة ذلك وأثره لما استلمت الخطبة والتدريس عن والدي الشيخ محمد نجيب رضي الله عنه  وعلمت أن سلاح طالب العلم هو : قال الله وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم  وبدون ذلك أنى للعالم أن يتكلم ؟!]

قلت : وفي ذلك إعداد من الله تعالى لشيخنا  الإمام  وإمداد له منذ صغره ودليل على صدقه وإخلاصه في طلب العلم فلم يك يبتغي من وراء ذلك منصباً ولا جاهاً ولا وظيفة ، وقد تجلى ذلك لما خرج من المدرسة الخسروية ولم يكمل الصف السادس فيها ، ولم يحصل على شهادة منها وكان ذلك بسبب أن إدارة المدرسة أدخلت جملة واسعة من العلوم الكونية في المقررات وأجبرت طلاب الصف السادس على الرجوع إلى الصف الرابع لدراستها .

وقد حبب الله إليه البحث حول شمائل سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وخصاله الشريفة وسيرته الزكية ، وكان يسر غاية السرور لقراءتها والاطلاع عليها ، خاصة منها المؤيد بادلة الكتاب والسنة ومفاهيم العلماء والعارفين رضي الله عنهم ، ومن هذا لما عرض عليه الشيخ رشيد الراشد كتاباً جمعه حول هذا الموضوع وسماه :الدر المنظم في وجوب محبة السيد الأعظم صلى الله عليه وسلم  ، قرظ له الشيخ بهذه الكلمات : 

بسم الله الرحمن الرحيم 

الحمد لله حمداً ليس له عد ولا إحصاء ، والشكر لله شكراً لا حد له ولا استقصاء ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الحكيم الفعال لما يشاء ، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله إمام الرسل والأنبياء ، وأصلي وأسلم على من خلقت من نوره جميع الأشياء وعلى آله واصحابه البررة الأصفياء صلاة وسلاماً عدد ما أظلت الخضراء وأقلت الغبراء في كل لمحة ونفس ما دامت الأرض والسماء 
وبعد : فقد اطلعت على كتاب الدر المنظم في وجوب محبة السيد الأعظم صلى الله عليه وسلم فرأيت فيه نوراً محمدياً باهراً وضياء نبوياً زاهراً تتجلى فيه أوصافه صلى الله عليه وسلم الكاملة واخلاقه الزكية العالية وهو كتاب يلهب الشوق في قلوب المشتاقين ثم ينعشها بروح رياح تلك الرياحين ، يزداد به الذين اهتدوا هدى ويقيم الحجة على أهل البدعة والردى ، موضوعه البحث في الذات المحمدية وما اتصفت به من الصفات السنية ، قد اغترف جامعه من بحور العارفين الزاخرة وأبحر العلماء الوافرة فالتقى البحران بحر العلم وبحر العرفان ، والله تعالى أسأل وبأفضل أنبيائه أتوسل أن يجزي جامعه خيراً كثيراً وأجراً كبيراً والحمد لله رب العالمين
الفقير لمولاه : عبد الله سراج الدين  

 

 

 

 

مطالعته وتدريسه

ثم إن مولانا الشيخ محمد نجيب رضي الله عنه  أشار على شيخنا الإمام أن يقوم بالتدريس بدلاً عنه ، بسبب الوهن والمرض الذي أصاب الشيخ محمد نجيب رضي الله عنه  فقام شيخنا الإمام رضي الله عنه  بذلك خير قيام مستعيناً بالله تعالى وتوفيقه وتأييده وقد قارب العشرين من عمره ثم إنه حصل على غرفة والده الشيخ محمد نجيب رحمه الله تعالى في المدرسة الشعبانية – وكان يقال لها : أزهر حلب – وكان الشيخ محمد نجيب رحمه الله تعالى قد جاور فيها أيام طلبه للعلم .

وبقي شيخنا الإمام يتردد إلى تلك الغرفة يقضي أوقاته في مطالعة الكتب العلمية ، ويتناول المطولات منها في علم التفسير والتوحيد وشروح الحديث والفقه وغيرها وبقي على ذلك ما يقرب  من سنتين .

ولما اقتضى الأمر أن تكتسب دروسه صفة رسمية لدى الجهات المسؤولة تقدم إلى مسابقة أعلنت عنها دائرة أوقاف حلب ، لدرس وقفي شاغر ، وكان لشيخنا الإمام الفوز والأسبقية في النجاح .

أما دروسه العامة فنهج فيها نهج والده الشيخ محمد نجيب رضي الله عنه  من حيث توقيت الدرس والأبحاث العرفانية العالية التي كان يتناول  الكلام عنها ، بأسلوب مبسط يسهل على الحاضرين فهمه ، ويفهمونه على حسب علمهم وفطانتهم ، خاصة أنه يكثر من ذكر الآيات والأحاديث التي تؤيد الموضوع الذي يبحث فيه .

فكان هناك درس في جامع بانقوسا بعد صلاة العصر من كل يوم جمعة ، يبحث في القضايا الإيمانية العلمية .

وهناك درس في الجامع الكبير بعد صلاة الظهر في كل يوم اثنين ، يتناول فيه الكلام حول قضايا الإيمان العملية .

 ولا يخفى على من كان يحضر دروسه أنها  كانت متسلسلة في الأبحاث يبتدئ الشيخ الإمام فيها بتذكير الحاضرين بالدرس المتقدم ، ليستجمع الحاضر فكره وقلبه إلى ما سيلقي شيخنا الإمام من بيانات وأبحاث .

وكان له صباح كل يوم عدا يوم الجمعة درس في جامع الحموي ، يقرأ فيه أبحاثاً من السيرة النبوية ، والتفسير ، والحديث ، والفقه وهكذا ، ثم اختصر تلك الدروس على أيام الأحد والأربعاء والخميس ، وذلك بسبب كثرة مشاغله ، خاصة أنه وكل إليه تدريس التفسير ، والحديث وعلومه ، والفقه ، في الثانوية الشرعية – وكانت تعرف من قبل بالمدرسة الخسروية - .

كما كان شيخنا الإمام يخطب الجمعة في جامع سليمان الأيوبي ، الذي كان يخطب فيه قبله والده الشيخ محمد نجيب رضي الله عنه  .


المرئيات 8
المقالات 36
الصوتيات 129
الكتب والمؤلفات 239
الزوار 1806685
جميع الحقوق محفوظة لحفيد الشيخ الإمام: الشيخ عبد الله محمد محيي الدين سراج الدين © 2024 
برمجة وتطوير :